Monday 2 November 2020

لا وقت للمَادة.



وقف، أَسند كف يده اليمنى إلى جدار الكنيسة في شارع فياترينو، واستقبل البحر بوجهه، استند بجسده على ذراعه المستندة إلى الجدار، ارتسمت على وجهه مسحة من البؤس والارتباك، كوّر قبضة يده اليسرى وأسندها إلى وركه بنحوٍ منحني كأنها أذن فنجان، قال:

كيف هذي يا ريّس؟
قلت:
لا وقت للمادة، تبدو العبارة هاربة من قسم الفيزياء أو من إحدى الورقات العلمية المشتغلة على قضايا الطبيعة عن (الوقت والمادة) لكن فيما لو خفضت من مستوى متلقيك إلى درجة المحكية البنغازية، فستعرف أنني أتكلم فعلاً عن (اللا-وقت) لكن ليس لمادة الفيزياء(Mass) بل لمادة الشارع (المرشبادي).
ضحك وفك يده من على جدار الكنيسة وأرخى قبضته وساعده من فوق وركه، ضحك ثم عاد وربط ذراعيه أمام صدره، كأنه طفلٌ في مدرسة، قال:

لا وقت دائماً لمثل تلك المادة، ولو من باب الحفاظ على (الطاقة).
ضحك وضحكت معه، ثم أضفت:

تعي وتحفظ جيداً القانون الثاني لحفظ (الطاقة) في عموم شوارع المدينة.
ضحك في موجة أخيرة حتى أسبل ذراعيه، وتوقفت الضحكة في آخر المنحدر الخفيف والقصير، عاد بعده ليشبك ذراعيه مرة أخرى ويقول:
كيف؟

قلت:
في العالم اليوم، وفي وقت الإتصال والتشابك الأعظم من كل ما عرفه التاريخ، وفي غمرة هذا التبادل الهائل في الكم والنوع والسرعة لكل المعلومات، يتبقى (0) ثانية من الوقت، لطرح المؤخرات على إسمنت حواف الطريق.
لايمكن للأربع وعشرون ساعة، أن تكفي لنقرأ ما تخلفنا عن قراءته في زمن الأخ القائد وزمن انتظار الكتاب المطبوع في مصر ولبنان، الـ MOBI و الـPDF التهما تلك القطعة من الزمن المظلم، وضعا حجراً عظيماً على ذلك الثقب الأسود، الروس ينهبون كل الكتب الحديثة (قاطعني تعجب من عينيه وتعقفت حواجبه) فقلت:

أعني بالنهب(القرصنة الالكترونية) وبذلك صار أمام خنافس وسوّاحي العالم، مِن قراءٍ ومثقفين فقراء، فرصة لمشاركة العالم القادر على شراء العناوين الحديثة، بمجرد طرقة كليك واحدة، صاروا مثلهم وبالمجان، هل تصدق؟

هم أيضاً -الغرب- يتغاضون عن الثقب الذي أجراه الفقراء في مطبخ ومخزن الكتب المصونة بالحقوق والمقيدة بالعملة، يؤمنون أن ترك فرصة لقارئ روسي أو هندي أو صيني أو إيراني، ستساهم بشكلٍ ما في الرفاه الإنساني، ونتيحة لمثل تلك الثقوب المتروكة، ينهال على الغرب سنوياً، آلاف العلماء والمهندسين والأطباء والمكتشفين، الفارين بعقولهم وعلومهم من قعر العالم إلى هناك، الأمر الذي دفع بالتقنية والرفاه الغربي إلى الأمام دفعات قوية، وما إنجازات (إلون ماسك) الأخيرة وباقي قفزات جوجل وفيسبوك وعالم الرقمنة وبقية العلوم وحقول المعرفة، إلا مظهراً من مظاهر الاستفادة الكبيرة، من بركات عوائد تلك الثقوب.
ذاك على صعيد الكتب، فالأربع وعشرون ساعة غير كافية!
أيضاً المواد المصورة والبرامج والدراما، هي أيضاً من الواجبات على المرتبطين بالانترنت، التي يجب مشاهدتها فالكثير من الروعة والجمال والإبداع في مختلف الميادين، لا يمكن أن يُترك وأن يُستبدل بساعة على الرصيف، لمراقبة الرائح والغادية.

وضع رأسه في الأرض وقال:
صدقت صدقت.

تقدمنا خطواتٍ إلى الأمام باتجاه (السقرسيوني) في صمتٍ تام، واصل هو المشي باتجاه البحر عاقداً ذراعيه خلف ظهره، واستمر يمشي في الماء صوب إيطاليا، انعطفت أنا من شارع عمر المختار ثم عدت لأنعطف باتجاه شارع العقيب، مرّت بجانبي سيارة ذهبت باتجاه شارع المهدوي، يرتفع من مسجلها صوت أغنية لاحميدا بونقطة، حيث يترنم المرحوم بنقطته متساءلأ:

"انريد ننشدك يا حوش وين أصحابك؟..."

M.S
3 Nov 2020