Thursday 11 March 2021

من يصدق أن الفتى قام بكل هذا؟

 




 محمد سحيم      


يُحكى أن راعٍ صغير السن، أنقذ قريته من موتٍ مُحتم، وحولها بحكمته إلى حصن صار بعد سنوات، مملكة قوية.

كان مجرد راعٍ صغير، لا يقيم له الناس وزناً، كعادة الناس في تحريز ومراعاة المال والسلطة والتعامي عن الآخرين.. كان الفتى يذهب بأغنامه إلى الجبل المُطل على قريته، يترك الأغنام في سهلٍ غزير العُشب، تحيط به الصخور من ثلاث جهات، ويروح يتسلق ذلك الجبل ويقضي يومه في اكتشاف الأماكن الجديدة، والتسكع عبر الهضبة الممتدة وراء الجبل من الناحية الأخرى والوديان عن يمينه وشماله، كان يأمن على أغنامه في ذلك المكان المنيع ويجد وقتاً للتوغل والاستكشاف، صار يكتشف كل يوم، درباً ومسرباً جديداً، إلى أن نفذ في أحد الأيام إلى الجهة المقابلة من الناحية الأخرى من الجبل، اخترق الجبل عبر درب غير معروف وعبر إلى الجهة الأخرى في أقل من ساعة، في حين كان الناس، يستغرقون في الدوران حول الجبل من جهة إلى أخرى مدة يومين وأكثر.

 

احتفظ الفتى بسره ومعرفته لنفسه، إذ لم يكن أحد من أهل القرية، يسعى للحديث مع فتى يرعى الغنم، وبالتالي، لم يجد الفتى من يستحق أن يخبره عن سره واكتشافه، عن الدرب الذي يحول مساراً طويلاً إلى مشوار ساعة.

في أحد الأيام، رأى الفتى على الجهة الأخرى من الجبل، جيشاً بدأ يُعسكر وينصب الخيام، وحين تسلل من العمق الذي جاء منه و راح يتنصت على أحاديث الجند والقادة، عرف أنهم يقصدون حرباً في مكان آخر، لكنهم في طريقهم إلى تلك البلاد سيمرون على قريته الواقعة على الجهة الأخرى من الجبل ويسلبون أهلها مالهم وطعامهم ومواشيهم كعادة الجيوش التي تمون جنودها من سلب ما يأتي في طريقها من قرى وبلدات، وكان لابد للجيش أن يدور حول الجبل ليهجم على القرية الواقعة من الجهة الأخرى، الأمر الذي سيؤجل هلاك القرية يومين لا أكثر.

عاد الفتى من عمق الجبل حيث قدمت له خبرته المكنوزة بالجبل، أفضلية تمكنه من بلوغ القرية خلال ساعة، في حين كان دوران الجيش بعدّه وعتاده سيستغرق يومين.

أسرع من عمق الجبل نحو أغنامه، وكان طوال الطريق نحو الأغنام، يفكر أنه سيذهب إلى مختار القرية ويحدثه بما سمع وشاهد، سيذهب إلى كاهن القرية، سيجمع الناس، لكنه فور أن بلغ أغنامه، خطر على باله خاطر، تولد بسبب معرفته بالناس، وبسبب أوقات التأمل التي كان يقضيها طوال الأيام التي كان يتجول فيها وحيداً عابراً من ممرات و دروب ومسارب خاوية، قال:

 وهل يرونني غير فتىًّ ساذج يرعى الغنم؟ هل سيصدقون أنني أعرف مسارب عبر الجبل تختصر العبور إلى الجهة المقابلة في ساعة بدل قضاء يومين في الدوران حوله؟ وهل سيصدقون قصة الجيش؟

سيستهزئون بي، وسأقضي الوقت في محاولة إقناعهم وربما بلغهم الجيش ولم يقتنعوا!

راح يجمع أغنامه ويقودها أمامه بغير حماسة، متجهاً صوب قريته، ماذا يجب وماذا يصح أن أفعل؟

في منتصف الطريق، خطرت في بال الفتى فكرة، فعرّج بأغنامه وتجاوز الدرب المؤدي إلى القرية باتجاه درب آخر، يقود إلى قلعة منيعة يحكمها ملك يهابه الصديق والعدو، واصل المسير حتى بلغ باب القلعة، كان الوقت قد تجاوز منتصف النهار بساعة، وما تزال البوابة مفتوحة، فدلف إلى القلعة بأغنامه ولم يُثر منظر الفتى الراعي وأغنامه أي ريبة، حتى أن الحراس، لم ينتبهوا أنه ليس من أهل المكان، ثم بلغ باب القصر في عمق القلعة، وقال للحارس، أنه رسولٌ إلى الملك، ويحمل معه هذه الأغنام، هدية إلى الملك من سيده في القرية، تلكأ الحارس في البداية وراح يسأل الفتى، ثم حين رأى الأغنام، وثقة الفتى بكلامه، وهيأة الراعي وأنه لا خطر على مليكه من مقابلة فتى يقول أنه يحمل هدية ورسالة، بلغ الفتى إلى الملك.

حين سأله الملك، من أرسلك وما هي الرسالة وداع الهدية؟

 

قال الفتى: يا سيدي اسمح لي أن أقدم لك أفضل هدية يمكن أن تُقدم إلى ملك، وهي أكبر قيمةً من أغنامي المسكينة تلك.

عاد الملك باستغراب وقال:

ما هي؟ أفصح يا فتى!

فقال أنا أقدم لك نجاة قلعتك وملكك من موتٍ وهلاك محقق ياسيدي، فهناك جيش يزحف باتجاه قلعتك، وهو في الطريق يراكم أعداده.

جحظت عينا الملك وقال: عماذا تتحدث يا فتى؟

قال الفتى: وراء الجبل، يعسكر جيش، يراكم أعداده، وهم اليوم قلّة وكل يومين تصل إلى معسكرهم كتيبة وبعد أسبوع سيقتحمون قلعتك، سمعتهم حين تنصت على معسكرهم من وراء حجب.

وقف الملك وراح يقلب عيونه بين وزيره  وقائد جنده، ثم قبل أن يتكلم، قال الفتى:

أعرف أنك لا يسهل عليك تصديقي، لكني الآن أنا وأغنامي رهينة عندك، فإن كان قولي حق، كافيتني بشيء سأ طلبه بعد أن تهزم ذلك الجيش، وإن كان قولي كذب ولا وجود لجيش من وراء الجبل، أخذت روحي وأغنامي.

حينها التفت الملك إلى وزيره وقائد جنده، وكان وجهه يتصاعد غيضاً واقتناعاً بقول الفتى، فطلب منهم إعداد الجيش خلال أقل من يوم، لمفاجأة الجيش المعسكر قبل أن تتراكم أعدادهم وعديدهم.

وحين دار الملك بجيشه حول الجبل، تقابل في منتصف الطريق مع الجيش الذاهب صوب قرية الفتى ليسلبها، فاعتقد الملك أن الجيش كان يهاجمه، فالتحم بالمهاجمين ودارت بينهم حرب، انتهت بانتصار الملك وهلاك الجيش المهاجم، بين قتيل وهارب بروحه، لا سيف ولا جواد.

عاد الملك منتصراً إلى قلعته، ومزهواً بجيشه، ومعجباً بالفتى الذي تركه في القلعة مع أغنامه ريثما يعود، وفور أن رأى الفتى قال له الملك: لقد أنقذت قلعتي ومملكتي، وأنا عند وعدي بتحقيق طلبك.

قال الفتى، أريدك أن تأمر البنائين في مملكتك، أن يبنوا حصناً حول قريتي الصغيرة، الواقعة عند الجبل، فكان للفتى ما أراد، وحين علم أهل القرية أن حصناً سيبنى حول قريتهم بسواعد البنائين من القلعة الواقعة قربهم، راح الكاهن والمختار وأهالي الحي، يفسرون هذا الاهتمام المفاجئ بقريتهم، كلٌ على هواه ، وصار كلام المختار وتحليل الكاهن هما التفسيران الأثيران والأقرب إلى التصديق والترديد من قبل أهل القرية.

 

أما الفتى الراعي، فعاد إلى قريته وبقي على ذات الحال يخرج بالأغنام إلى الجبل، ويقضي يومه في اكتشاف الدروب والمسالك الجديدة، ويتزود بحكمة الوحدة وينصت إلى صمت الجبل، يتزود بأثمان غالية لفداء أحبابه، حتى وإن كانوا لا يرون له قيمةً تعدو قيمة الفتى الراعي...

Sunday 28 February 2021

... لا أشارك في الجوقات...

 



"ماذا قال ريتشا؟"

قالها وهو ينظر إلى مرآة بيضاوية معلقة بين حاملين بطول إنسان، حاول تعديل ربطة عنقه الصغيرة (فرفلا) وهو ملتصق بالمرآة، ماذا قال؟ أعاد السؤال مرة أخرى.

-        تعني (نيتشة) أليس كذلك؟

-        نعم، هو، ماذا قال عن الانتقام "....احذر أن تكون وحشاً مثلهم"

-        ها أنت تعرف المهم من المقولة.

-        لا، بل أريد سماعها منك مرتبة وكاملة.

-        "كن حريصاً وأنت تصارع الوحوش حتى لا تصبح واحداً منهم".

-        يا للجبان، خوّاف أليس كذلك؟

وعاد يمسح على جاكيت بدلته من ناحية اليمين، مد ذراعه ومسحها بكف يده الأخرى ودار أمام المرآة ربع دورة، ثم عاد وألصق وجهه بالمرآة ثم أخذ في إعادة ضبط وضعية ربطة عنقه، وبعد تكرار هذه الأفعال عدة مرات، أخذ يتمتم وعاد بعدها ليرفع صوته:

إذاً المهم هو ألا نصير وحوشاً في النهاية؟

-        المهم يا صديقي، هو ألا تتأخر وأن تُفكر في ليلة عرسك وعروسك والأوقات السعيدة القادمة.

-        لماذا؟ هل يبدو (ريتشا) غير مناسبٍ لليلة العرس، هل تلطخ كلماته هذه البدلة أم أن البدلة لا تليق بكلماته؟

سكتت واستندت بظهري على حائط الممر الذي كنت أنا وهو والمرآة نقف فيه، بينما يجتمع الآخرون في الصالة الواقعة من بعده، كان الممر ينتهي إلى نهايتين واحدة إلى صالة مستطيلة وأخرى إلى منافع وغرف نوم، كنت أنا وهو والمرآة نقف في المنتصف، يقابل بوجهه المرآة البيضاوية وأقف أنا خلفه ملاصقاً للجدار الآخر، أرى انعكاس وجهه وحركاته على المرآة المقابلة.

عاد ليسأل وهو ينظر إلى انعكاس صورتي في المرآة:

-        هل يبدو كلامي سخيفاً ولا يستحق منك أن تجاوب؟

-        لا.

-        إذاً لماذا لم تصحح لي نطق اسم (نيتشه) حين داومت على تكراره (ريتشا).

-        لقد صححته، لكنك لم تلاحظ.

-        لم يعد الوقت مهماً على ما يبدو، لقد استندت إلى الجدار من خلفك كأن شيئاً ما قد أُلغي!؟

-        يبدو لي أنك أدرى منّي بما تفعل..

-        نيتشه هذا يا صديقي، يطلب منك ومني ألا نصير وحوشاً، أن ننتصر على الوحوش ونحن في حالتنا (الإنسانية) بكامل حلّتها، وهذا غير عادل تماماً، أعتقد أن من أجزاء الانتقام من الوحش، أن يرى وحشاً آخر أمامه.

-        ربما هو غير (سينمائي) إذ لا علاقة للعدل بالموضوع.

قلت عبارتي تلك وابتعدت عن الجدار ووضعت يدي في جيب بنطلوني وأضفت:

دعني أكمل لك العبارة التي قالها (نيتشة) مادام أنه صار قرينك المفاجئ في هذا اليوم، قال:

"..خذ حذرك وأنت تقاتل الوحوش حتى لا تصبح واحداً منهم، ولا تحدٌق طويلاً في الهاوية، حتى لا تنظر الهاوية أيضاً إليك، وتنفذ فيك.."*

بقي ينظر نحوي في المرآة، يطيل التحديق في انعكاس صورتي، كأنه تجمّد، ثم قال:

لا.. ليس الأمر بهذا القدر من الضخامة يا صديقي، لست وحشاً وليس الموقف هاوية، كل ما في الأمر، أني أنوي أن أجري لطمة صغيرة لرد لطمة قديمة تعرضت لها دون ذنب.

عدت لألتصق على الجدار من خلفي، أخرجت يدي من جيبي وعقدت ذراعي أمام صدري، وأدرت رأسي بضع درجاتٍ نحو اليمين وأحنيته قليلاً، وصرت فيما يشبه وضع الاستعداد إلى الاستماع الطويل.

قال:

-        رأيتها في مكانٍ عام وتبادلنا الأرقام، عرفتها لفترة بسيطة ثم حين أحسست أنها مناسبة، سألتها عن إمكانية إحضار أهلي للتقدم لخطبتها، وافقت، لكنها في المقابل لم تكن مهتمة بكل ما قلته عن نفسي، لم تسألني أكثر من أسئلة عابرة ومفتعلة، لا تشبه نهم الأنثى لمعرفة كل شيء عن الذكر الذي يبدي اهتمامه بها وينوي الارتباط بها، وافقت وقالت تفضل أنت وأسرتك (يوم كذا)..

-        قاطعته، إن كنت تحكي عن تلك التجربة الأولى، فأنا أعرف تتمة القصة، وأعرف أنها ذهبت في حال سبيلها، وأنت الآن مقبلٌ على حياةٍ أخرى، مع إنسانة أخرى..

-        لا، ليست أخرى، إنها الشخص نفسه، تلك التي استقبلت خطبتي الأولى، بالسخرية والإذلال والضحك من أمي وأختي، تلك المتغطرسة، ابنة ذلك الفاسق السخيف، هي عروسي الليلة، الاثنان واحد، اعذرني على هذا الإخبار المتأخر.

كان الجواب صادماً، وغير متوقع، رغم أنه منذ غروب ذلك اليوم، كان يبدو بصدد أمرٍ ما، لكني لم أتوقع أن يكون الأمر بهذا الحجم والشكل والطبيعة، سكت قليلاً ثم عاد وقال:

-        بعد انتهاء محنة تلك الخطبة الفاجعة بأكثر من سنة، فوجئت بها في إحدى المرات وقد جاؤوا بها مسرعين إلى قسم الطوارئ، عرفتها من وجه أختها التي كانت تركض حافية رفقة حمالة الإسعاف، ثم رأيت والدها يركض من خلفهم، وحين اقتربت من الحالة، اكتشفت أنها هي، بشحمها ولحمها وعظامها المحطمة على إثر حادث دهس تعرضت له وهي تعبر الطريق باتجاه سيارة والدها.

قدمت لها الاسعافات اللازمة رغم أني (لست طبيب إسعاف) بل جراح عظام، وأجريت لها ثلاث عمليات على ساقها المهشمة، قدمت لها كل العناية، وأحضرت لها كل الأخصائيين، بل أفضلهم من كل مستشفيات المدينة، ويوم راحت تتماثل للشفاء وتصعد درج العودة إلى حياتها الطبيعية، قال لي والدها (السخيف) لقد ردمتنا بجمائلك وملكت نفوسنا وأجسادنا، وحين أراد أن يعرج على الموقف السخيف والإحراج العظيم الذي تسببوا به لعائلتي، انسحبت من النقاش.

 

بعد أن عادت إلى البيت وبدأت في حضور جلسات العلاج الطبيعي، أخبرتني أنها (أحبتني) صارت (تحبني) هي من قالت ولست أنا، حينها وحتى تلك اللحظة كنتُ طبيباً يؤدي دوره، مازال شيئاً من صدمة (تعاملهم الفظ وغير اللائق) في رد خطبتي وأهلي في المرة الأولى، لكني كنت طبيباً متمسكاً بدوري ووظيفتي إلى أن عادت لتعرض حبها.

فكرت أن أرد عليها بقسوة وأقول (أنثى بعظامٍ مرقعة بال(البلاتين) تصنيفها أقل من الأنثى التي كنتِ عليها، لذلك تتفضلين بقبولي بعد أن انحدرتِ إلى منزلتي؟) وكنت أفكر في أن أضيف سطراً من الشتائم والمسبات الزقاقية المريعة، لكن (نيتشة) وقف في طريقي وأفسد فكرتي.

 

وها أنا ذا أجهز نفسي (على غير وصية نيتشه) كي أنتقم منها في هيأة وحش، سوف أذهب إلى صالة العرس وأجعلها وأسرتها يدفعون الثمن.

 

-        تحدق في الهاوية إذاً... قلت له.

-        كنت لا آبه بأحد من هؤلاء السخفاء الذين تحبهم وتقرأ كتبهم وتعيد بعض مقولاتهم علينا، كلما تلاقينا حول مائدة سَمر وكأسين لأجل الرواق، كانوا يخرجون بأفكارهم من فمك، حين يدور رأسك على إثر بضعة كؤوس، كان يحضرون جميعاً (نيتشه، شوبنهاور، كامو، راسل، بوبر، وبقية الشلة) والأسوأ أنهم كانوا يعلَقون هم وأقوالهم في رأسي على مدى الأيام التالية، علق (نيتشه) بمقولته تلك عن الوحوش، وحضر ذلك الموقف من تلك الأنثى ووجدت نفسي عالقاً في النص والتجربة معاً.

-        ربما يمكن للطريق أن تكون أقل مخاطرة وألم، الدوران حول الجبل، أفضل من تجسم صعوده والمرور من فوق فوهة البركان!

أكملت جملتي الأخيرة وعاد وانتصب من جديد أمام المرآة وصرخ بأعلى صوته منادياً شقيقه:

 يا خالد أنا جاهز!

جاء خالد وجاء معه المجتمعون في الصالة، دخلوا إلى الممر وتجمعوا حول (العريس الوهمي) في المسافة ما بيني وبينه، كانوا شبه طبيعيين، أعتقد أن أحداً منهم لم يكن يعلم بالموضوع وما ستؤول إليه تلك الليلة..

اندفعوا مرة واحدة خارجين باتجاه الصالة ومن ثم باتجاه باب الفيلا ودار هو على  إثرهم، قال:

-        أرى أنك لم تتحرك؟

-        لن أتحرك.

عاد وأكمل طريقه باتجاه الصالة وغادر الباب باتجاه السيارات المتوقفة في الشارع.

 

 

 

 

 _________________________________

·       كتاب ما وراء الخير والشر – فريدريك نيتشه.