Sunday 25 October 2020

دون حرية أو مساحات إضافية، لو سمحت!

 ذهب (سي محمد) مع أسرته إلى الولايات المتحدة، أوائل التسعينات من القرن الماضي، عاد على الأرجح إلى بلده الثاني، عاد ضجراً وممتعضاً ومهموماً مما جرى ويجري في ليبيا الجائعة المحاصرة، اقتلع في طريق مغادرته مرايا الرؤية الجانبية والخلفية، كي لا يرى شيئاً مما تركه هناك "وضع حجراً على البئر العطن" كما كان يقول.

بقي حتى بلوغه مالطا، يتذكر رجل الأمن الذي كان يُقلب جواز سفره، ويغادر به ثلاث مرات إلى مكتب مجاور، يراوده عدم اقتناع بضرورة إطلاق سراح هذا المسافر المشتبه به بجريمة اسمها (لا شيء بس شكله نظيف) كان موقف الجوازات يومها، أشبه بموقف العابر فوق سطح الموت.

كانت ليبيا التسعينات على حد الوصف اللبناني الذي تستخدمه الدلوعات، كانت دولة (بتقرِّف) ناهيك عن أنها كانت تَسجِن وتُخفي وتجبر المواطنين على التجنيد الإلزامي، زيادة على النقص الحاد في العملة والسلع، المضافة فوق الحصار الذي فرضه علينا القذافي والعالم، كانت الحياة هناك جحيماً إلا لمن ولد فيها ولم يعرف غير تلك الظروف (اللا إنسانية).

على رأي جماعة "التنمية البشرية" تخيل أنك أسد.


كان (سي محمد) قد رسم وخطط مسار الطريق لحياته الجديدة في بنسلفانيا، من السكن إلى الوظيفة مروراً بمدارس الولد والبنتين واعتقد أن الفَكة من سعيد عيد* كل شيء يهون بعد الغروب عن وجه (قائد النصر والتحدي).


بعد رحلة طويلة وشاقة وصل إلى الولايات المتحدة واستقر مع أسرته في منزلِ مؤقت، بعد اسبوعين من بداية التشافي من جراحات الجماهيرية، اكتشف مشكلة لم تكن محسوبة ضمن خططه لمعالجة ارتباك الانتقال بين كوكبين وعالمين مختلفين.


كان (علي) قد انتقل مع والده وأسرته، من مطار فرانكفورت إلى مطار جون كندي وهو يحتضن كرة قدم، اشتراها له والده فور وصول الأسرة إلى مالطا، ثم اكتشفها (علي) في فرانكفورت وأصر على احتضانها لما تبقى من الرحلة، كانت المضيفات على متن الطائرة الألمانية يحاولن إقناعه بوضع الكرة أسفل المقعد كي يتسنى لهن وضع الوجبة أمامه على الطاولة، لكنه أصرّ، هذا مستحيل فالطفل قادم من بلاد ينشغل قائدها بتسليح الجماعات الإرهابية والحركات الانفصالية حول العالم، ويرى أن ألعاب الأطفال والشكولاتة والحلوى، كماليات غير مهمة وخطر على اقتصاد أول جماهيرية في التاريخ.



عادت المضيفة في مرة أخرى تحمل مجموعة من الهدايا (مجسم صغير لنجم المنتخب الألماني يورغن كلينسمان ومجموعة من البطاقات المصورة التي تحمل صور لاعبي المنتخب الألماني وهدايا أخرى جُلها مرتبط بكرة القدم) احتضنها (علي) مع الكرة، وبقي متشبثاً بهدايا عالم كرة القدم ورفض الأكل أو الشرب أو فعل أي شيء غير تفقد هداياه الثمينة.

كانت المشكلة تجري مع ابنه (علي) الذي كان في سن العاشرة، وواجه لتوه أول أزمات العقد الثاني من العمر، كان (علي) جالساً على الكرة في باحة قريبة من المنزل ويقابله أربعة أطفال في مثل سنه، كان الجمع يعانون من خطبٍ ما، ليس اللغة بكل تأكيد لأن الأطفال ليسوا مُعقَدين إلى الحد الذي تقف اللغة أو الثقافة عائقاً لصنع تواصل وتفاهم بينهم، بل كان شيئاً آخر.


اقترب (سي محمد) وسأل الأطفال بالإنجليزية (كيف حالكم؟) ثم أضاف (أنا والد علي، انتقلنا إلى هنا منذ أيام) هز أحد الأطفال رأسه وكتفيه فيما يشبه القول (نعرف هذا) بقي (علي) جالساً على الكرة ولم يرفع رأسه حين كان والده يكلم الأطفال.

عاد (سي محمد) ليسأل الأطفال، لماذا لا تلعبون؟

جاوبه متحدثهم الرسمي: أن (Ali-علي) لديه مشكلة في الملعب!

نظر الأب من حوله، وجد أن الباحة مناسبة جداً رغم أنها معدة لرياضات أخرى غير كرة القدم، قال:

(المكان مناسب، ماهي المشكلة؟)

ثم انتبه إلى أنه يطرح سؤاله باللغة الانجليزية، ولم يكن (علي) يومها يعرف عن الإنجليزية إلا أنها لغة ريغان وتاتشر(1).


We need a wall


عاد وطرح السؤال على ابنه بالدارجة الليبية (شنو فيه؟)

أجاب علي:

لا يوجد في الملعب جدران، مساحة الملعب كبيرة لكن لا تحيط بها جدران، الجدران مهمة للتمرير والمراوغة وتحمي الكرة من أن تذهب بعيداً، إضافة إلى أنه من الأفضل أن يكون المرمى على جهة الجدار، مدخل أو غاراج أو باب، أو مسافة بين باب ونافذة، الملعب هنا أصلع تماماً وأنا تعودت أن ألعب في وجود الجدران!




يقول (سي محمد) حينها فقط انتبهت إلى أنني أحضرت كل شيء معي من ليبيا إلا الجدران، سعادة (علي) عند لعب كرة القدم تنقصها جدران.

يضيف، سمعت أحد الأطفال يقول:

Yes, we need walls.




__________________________________________

* مَثل ليبي.

(1)

رونالد ريغان (6 فبراير 1911 – 5 يونيو 2004) الرئيس الأربعون للولايات المتحدة الأمريكية، والعدو الأول للعقيد القذافي، كان يسمي القذافي بالكلب المجنون Mad Dog وخلال فترة حكمه وصل التوتر بين البلدين إلى أشده.

مارغريت ثاتشر (13 أكتوبر 1925 - 8 أبريل 2013) رئيسة وزراء المملكة المتحدة في الفترة الممتدة بين 1979-1990 اشتهرت بلقب المرأة الحديدية، كانت العدو الثاني للعقيد القذافي.









No comments:

Post a Comment