Sunday 25 October 2020

اللغة والناس والفوضى.

 عندما تنحط اللغة، فهي ربما تنحط تبعاً لانحطاطات عديدة سابقة، أو أنها بانحطاطها تسببت في تداعيات وانهيارات مختلفة، لا أزعم معرفة من جاء في المرتبة الأولى، لكن تكفينا الاشارة إلى تزامن الانهيار في مجتمع ما، على صعيد اللغة وصعدٍ أخرى مختلفة.

قد لا تسعف حداثة السن كثيرين، ليتذكروا كيف كان "عضو المؤتمرات الشعبية الأساسية(1) يقف متيبساً أمام ميكروفون "الهيئة العامة لإذاعات الجماهيرية العظمى(2) حتى وإن كان الرجل في حياته العادية، كلمنجياً مِهذاراً، لكنه ما إن يقف أمام الكاميرا في أحد البرامج التي غالباً ما كانت تصور في طرابلس وحدود طرابلس الكبرى، أول ما يقوله الرجل أمام المايكروفون "نشكر إذاعة الجماهيرية العظمى على إتاحة هذه الفرصة".
كانت هذه الجملة هي مفتاح إطلاق سراح ذلك المتيبس، وزبدة 90% مما كان سيقوله، إذ لا تسعفه فرصة الظهور على الشاشة أمام القائد ومختلف الأجهزة الأمنية، أن يقول ما قد يؤخذ على أنه (ميول كلاب ضالة) الموقف أشبه بوقوف التلميذ دون إجابة أمام سؤال معلمه العنيف الغضوب.


في بدايات عصر الفوضى وحتى أوائل الثمانينات، تنقل لنا المواد المصورة المتاحة من حقب الخطابات الكثيرة والغاضبة دائماً للكلونيل معمر، تنقل لنا متلازمة سلوكية، قل أن نجدها عند أي زعيم سياسي آخر.
كان العقيد ينهَر ويُسكِت ويزعق ويخرِس الجمهور أمامه، في كل الحقبة التي سبقت إنشاء كتيبة (امحمد المقريف) التي استلمت مهمة (تشليط الجماهير المستقبلة للقائد) إذ تحولت تلك المهمة المضجرة التي كانت تقطع تسلسل أفكار الأخ الكولونيل القائد، تحولت إلى أحد مهام كتيبة الحراسة، فصار الحراس يشيعون المتكلم أو المعلق أو المُقاطع، بـ تفنيصة أو ركلة أو تعنفيقة(3) الأمر الذي لا يجعل صوتا يعلوا على صوت الكولونيل وأهازيج (دوم معمر هوا القائد).



اللغة التي شَوّهت أو تشوهت بالمعية، كانت على مقاس ذكاء الأخ الكولونيل القائد، إذ وفقاً للعلماء المشتغلين على فهم الذكاء البشري(4) يقع الذكاء اللغوي ضمن أحد صنوف الذكاء البشري.


كما نعلم (أو لايعلم كثيرون) لا تتعدى معارف القائد حدود الصف الثالث ثانوي، إذ جرى فصله من قسم التاريخ في جامعة بنغازي بعد الرسوب في عامه الأول، وتحول بعد ذلك إلى الكلية العسكرية ثم صار مفكراً عالخوا.

مستوى ذكاء الأخ القائد، هو ما رسم النموذج المعياري للغة في ليبيا القذافي، ووفقاً لها رُسمت العبارات والجمل والكلمات والمصطلحات وأعيد تسمية كل شيء، على صعيد الأوراق الرسمية وأجهزة الإعلام الرسمية، فتمططت اللغة وتسخّفت وأهلكها التكلف والمبالغة، لأن الأخ القائد كان مدمناً على الاستعراض والتكلف وإعادة التسمية، إذ أدمن على مدى سنوات حكمه أن يبين في كل مناسبة وظهور، عبر جمل اعتراضية طويلة جداً (الخطأ والصواب) بين مفردتين أو شرح وتأصيل مفردة ما، وكلها كما نعرف، معلومات كان قد أسرَ له بها المدرس الخصوصي الراحل (الدكتور علي فهمي خشيم) في خلوةِ ما من خلواته مع من يقرؤون له (5)



على العموم، كانت لغة معمر رديئة، متكلفة، ومعيبة بيانياً، وفقيرة في المفردات والسلوك التعبيري، الذي كان يختصره في عادة (مباشرة الراعي). بالمقابل تأثر الناس برداءة لغة الدولة وصارت الثقافة معيبة أيضاً ورديئة و(مشي حالك) وانحدرت دون ذلك، المعمار أيضاً والطرازات والتصاميم، التي راحت هي أيضاً تخبر عن اضطراب عميق في وعي وفهم وذوق الفرد والجماعة.

معمارنا المشوه، المستورد من بيئات مختلفة ومدمج في قالب واحد على نحو غريب وعبثي، بغض النظر عن أنه نتيجة مباشرة لأحد قرارات معمر بإسقاط المعايير والعبث بالسجلات الرجعية سواءً أكانت (السجل العقاري أو السجل المدني أو المكتب الهندسي المختص بالهوية المعمارية الليبية وغيرها) معمارنا ملمح يعكس مضاعفات تشوه اللغة والعقل الليبي.

إن كان الكاتب الفصيح يسعى دائماً إلى بلوغ الفهم وتحقيق الغاية من دور اللغة في التنظيم وتسيير الحياة، فإن المصمم يهمه أيضاً أن يستخدم البيئة محل التصميم، لأداء الدور بأقصى كفاءة وأقل أخطاء، باللغة نصمم على نحوٍ ما، وبالتصميم نعبر أيضاً عن قيمة عقل المصمم والعقل الجمعي المستهلك للتصميم.




techno_estet الصور نقلاً عن


_______________________________

(1) مفردة من القاموس الجماهيري، يقابلها في بقية قواميس العالم كلمة (مواطن). (2) ما تفنصش👀 هذا هو الإسم الرسمي لتلفزيون الجماهيرية العربية الليبية الشعبية الاشتراكية العظمى السابقة. (3) زنقيرة بلهجة بنغازي (4) هذا الرابط للمزيد من التفاصيل https://www.for9a.com/.../%D9%85%D8%A7-%D9%87%D9%8A-%D8...

(5) كان معمر منذ أن لبس قبعة (مُفكر) يُشغل بعض الصحفيين والكتاب، ثم استغنى عنهم واستبدلهم بأساتذة الجامعة، كان يشغلهم كقراء يوجههم نحو الكتب والعناوين المشهورة، يقرؤون ويأتوه بالزبدة، يبقى الكشف عن بقية الأسماء رهن برغبة أصحابها.


No comments:

Post a Comment